متابعة
أدعو العلماء والمفكرين العرب، إلى أن يعملوا الذهن والفكر في هذه الركائز الثلاثة أو ربما من يرى أنها أكثر من ذلك، إلا أنني اشتغلت لسنوات طويلة، وتوصلت لقناعة أكيدة، أننا إذا واصلنا الحفر في الشعارات الغربية وهي نتاج الفكر الأوربي ــ المسيحي ، المطعم بنكهة رأسمالية، التي جاءت نتيجة للصراعات النظرية داخل الكنيسة الكاثوليكية، نجمت عنها الانتفاضة البروتستانتية، قادت إلى ليبرالية في الفكر والتوجه الاجتماعي / الاقتصادي، سوف لن توصلنا لنتيجة، لأنها مخالفة للأصول الفكرية لجذورنا، وهي ليست العلاج مشاكلنا، ونحن نحاول منذ بداية عصر النهضة العربي الجديد (أواسط القرن التاسع عشر فصاعداً) أن ننمي أفكار لا تتسق معنا، هناك من يريد استنساخها حرفياً، وهذا ما لم تفعله أمة في العالم.
لا يوجد نظام واحد في كل العالم، لكل أمه تجاربها ونكهتها، وطريقة تعامل المبادئ مع الواقع المادي ..! أي فكرة لا يمكننا استنساخها، لأنها تخالف الواقع الموضوعي، علينا أن نطور تجربتنا، لكي تصلح لهذا العصر، والعصور المقبلة ...هكذا تفعل الأمم التي نجحت في مسيرة التقدم بصرف النظر عن فحوى النجاح وسماته: الصين، اليابان، الهند، فلا يمكن أن ننجح كعرب، بعقل غربي.
من المهم أن نفهم، أن أوربا (ليس كل دول أوربا) لم تصل للمستوى الذي بلغته، بسبب تفوق نظامها وفلسفتها السياسية / الاجتماعية، بل بسبب الثروات والمواد الخام التي جنتها من بلدان القارات الثلاث (آسيا، أفريقيا وأمريكا اللاتينية) والتعاملات التي تفتقر إلى التكافؤ، والحروب الاستعمارية، والنجاحات التي تحققت في التراكم السريع للثروة بسبب السياسة الاحتكارية الاقتصادية الرأسمالية في الداخل والنهب الاستعماري للموارد الخام، وإعادة تصديرها مصنعة بأضعاف الأسعار، إضافة إلى (تصدير رأس المال/ Capitalexport ) في الخارج. وفي مراحل لاحقة قاموا بتفصيل جهاز الدولة بناء على المصالح الطبقية للفئات المهيمنة، وعززوها بتشريعات قانونية. فأضحت الدولة بأسرها ملك للشركات، فالشركات أسست حتى الجيوش الخاصة(بلاك ووتر) وباعت الدولة حتى إدارة السجون للشركات، فالشركات والبنوك تمتلك كل شيئ، ونظام كهذا لم يتحقق بتفاصيله كنسخة عنه حتى في بلدان أوربا الغربية.
إن ما أنتجه العقل العربي في مرحلة الاستقلال الوطني الحديث، وهذا غالباً تم في بداية القرن العشرين، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، في وضع المؤسسات الممثلة للسلطات الثلاث: التشريعية(البرلمان)، والقضائية (المحاكم)، والتنفيذية (الحكومة)، وهي على الأرجح مزيج يفتقر إلى سلامة النقل والدقة في العمل، ليحاكي العقل السياسي الغربي، ولم تنجح فكرة فصل السلطات إلا بشكل نادر. حتى القضاء كان يشكو في كثير من الحالات من تدخل السلطة التنفيذية في شؤونها. أما ما يطلق عليها بالسلطة الرابعة (الإعلام) فهي غالباً ما تمثل أداة تتخذها الحكومة لترويج مبادئها.
والحق أن سمو هذه المؤسسات والعلاقة فيما بينها، قد أصيبت بالخلل في حالات كثيرة، بل في مراحل طويلة نسبياً حتى في الدول الرأسمالية الغربية. هناك رصد دقيق أسفر عن التأكد بتدخل السلطة التنفيذية في شؤون السلطة القضائية بدرجة حاسمة، جرت في أكثر الدول تقدماً، ففي بريطانيا الدولة المتقدمة في النظام الغربي، تدخلت الدولة في عدة حالات في القضاء فحكمت كما تشاء الدولة. وهذا ما جرى كذلك في حالات عديدة في تدخل الدولة الحاسم.
أكثر من ذلك، تنص مبادئ الاقتصاد التي جاء بها آدم سمث البريطاني، واعتبرت المدخل للاقتصاد السياسي للرأسمالية، على عدم جواز تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي قطعياً ويعتبر تدخلها غير محمود النتائج، ولم يبتعد ديفيد ريكاردو البريطاني كثيراً عما جاء في دستور آدم سمث(ثروة الأمم)، إلا أن الكنزية ( جون مينراد كينز) أقرت تدخل الدولة إن كان في ذلك ضرورية بحيث يعتقد أنه من خلال الطلب الكلي تستطيع الحكومة محاربة البطالة والكساد، خصوصا إبان الكساد الكبير . على أن مسألة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي صار موضع شد وجذب في الأنظمة الديمقراطية (الرأسمالية) .
وإن شئنا التقدم خطوة بعد أخرى، فنقول أن المرتكزات الثلاثة : الشورى / الحل والعقد / البيعة، هي ثلاثة عناوين رئيسية، في دراستها المعمقة يمكن أن تؤدي لتفصيلات في سياق الممارسة العملية لها. فالشورى تعني إشراك اكبر عدد من المواطنين من الجنسين في العملية السياسية، ومؤسستها الرئيسية هي :
== مجلس الشورى، مجلس الشعب، البرلمان، مجلس نواب الشعب، وهذا الاشتراك ينبغي أن لا يقام على أساس الدين أو العرق أو المناطقية والأسرية، بل على دور وحجم المرشح لمجلس الشورى من الناحية الاجتماعية والمساهمة الإنتاجية في أي من صنوف العمل والإنتاج(العاملين في القطاعات الإنتاجية والخدمية والعلمية والقيادات الشبابية). بما يضمن لنا أن يكون المجلس ممثلاً بصورة واقعية دقيقة للبلاد، ويدرس أسلوب إيصال مرشحي هذه الفئات لمجلس الشورى الذي يمثل مجلس النواب. ولا أعتقد أن النظام الانتخابي (صناديق الاقتراع) هي الوسيلة المثلى، لكثرة ما عايشناه من تزوير، فما أسهل من يحرق صندوق الانتخابات وبؤتى بواحد جديد في أصوات "عاقلة" مضمونة ..! لنتفق على المبادئ، ومن ثم على الأساليب ونصابها القانوني.
== أما مجلس الحل والعقد، ويمكن تسميته بمجلس الأعيان، مجلس الشيوخ، . فالمقصود بهذه الحلقة إيصال أبرز شخصيات ورموز البلاد السياسية والثقافية، بحكمائها، بأسمائهم، أو بعناوين المواقع التي تشغلها إلى كيان سياسي تطلق عليه هذه التسمية، ليلعب دورا في ترشيد القرار ومنحه نكهة الحكمة وبعد النظر. وتتألف عناصر المجلس من جهابذة البلد ومفكريه، والشخصيات لها سابق عهد في شؤون البلاد وكانت قد شغلت مناسب كبيرة، كرؤساء وزراء، وزراء، قادة فكر، قادة الدولة الأمنية. ومجلس الحل والعقد الذي أطلق في عهد الخلافة الراشدية، لم يكن أمرا جديداً تماماً، بل هو موجود في معظم العهود والدول، حتى في مجالس العشائر بتسميات شتى: مجلس العقلاء، الحكماء، الشيوخ، الأعيان. وفي العهد السومري والبابلي، كان هناك مجلسان لجانب الملك: مجلس الشباب، ومجلس الشيوخ.
== مجلس الأمن القومي: تعمد كثير من الدول إلى اعتبار قادة الأجهزة الأمنية : الأمن والمخابرات، والاستخبارات، وقائد الشرطة، والجيش، ووزير الدفاع والخارجية والداخلية، ووزير الاعلام والاقتصاد، إضافة لرئيس البلاد، ورئيس الوزراء / الوزير الأول، كأعضاء في مجلس الأمن القومي / الوطني، وتحدد صلاحياته ومهامه،
== المحكمة الوطنية العليا، وهي المؤسسة القضائية الأعلى التي تحدد صلاحيات ومهام المحاكم الأدنى، وما يكفل استقلالها عن سائر المؤسسات الأخرى.
== الحكومة : يرأسها رئيس الوزراء، الوزير الأول، ككيان المسؤول الأول عن تنفيذ ما يصدر من قوانين وقرارات تترجم إلى مراسيم.
== البيعة : هي العملية التي ستفضي إلى انتخاب رئيس البلاد ومؤسسة الرئاسة وتقيم البيعة لشخص أو أشخاص من أعضاء مجلسي الشورى، والاعيان، من خلال دعوة أعضاء البيعة، والتصويت لأحد المرشحين (بالاقتراع السري أو العلني) بحيازة الثلثين من الأصوات. أو النصف زائد واحد.من الممكن للمؤسسة / كيان تأسيسي يحدد مهام وصلاحيات وأبعاد عمل كل مؤسسة من هذه المؤسسات الثلاثة أو الأربعة، ابتداء من السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية.
بأعتماد هذه المؤسسات : الشورى، الحل والعقد، والأمن القومي، والبيعة، نكون قد أشركنا أفضل الفئات والشرائح في تقرير مصير البلاد، وانتخاب الأكفاء المقتدرين علما وكفاءة وتاريخاً، وبأفضل الوسائل التي لا تتيح لمغامر القفز إلى السلطة، ومن ثم وضع آليات لإنهاء ولاية من يفشل، أو يسيئ الى الثقة، أو قد يصبح عاجزا عن مستلزمات وظيفته لأي سبب من الأسباب: المرض، أو الإصابة بما يحول دون أداء وظيفته بصورة تامة.